صيدا المُستَباحة

سيُقال إنَّك طائفيّ، مذهبيّ مقيت، إنَّك غير وطنيّ ومع الإمبرياليّة العالميّة، ووكيلها في المنطقة، “الغدّة السرطانيّة” التي اسمها إسرائيل.
سَتُتَّهَم بالعمالة، وستخاف من أن تُضرَب أو يُعتدَى عليك، أو أن يتحرّك العَسَس للتحقيق معك وإهانتك وتوقيفك بتُهَم إثارة النعرات الطائفية وتهديد السِّلم الأهلي.
سيُقال عنك إرهابي، داعشي، صنيعة الـCIA، تتحرك وفق ما يُمليه عليك مشغلوك.
للحظة ستُصدِّق أنَّك كذلك، بل وأكثر. لأنك حفيف.
تلك هي لعبتهم المعروفة والممتهَنة منذ سنين: إن لم تكن ما نَرى، فإنك غير جدير بالحياة، بل وحتى بالوجود.
####
لا يحتاج الأمر إلى شركة إحصائيّات دولية معتبرة، لتوثيق أنَّ:
أكثر من 80% من أهل صيدا لا يحبّون حزب الله.
وأكثر من 70% منهم لا يوافقون على سياسته المذهبيّة.
وأكثر من 50% من الصيداويّين يعتبرون أن الحزب قد قتل ابن مدينتهم رفيق الحريري، بحسب أعلى سلطات المحاكم الدوليّة، لكنّهم أجبن من أن يجاهروا بذلك علنًا.
وأكثر من 80% يمقتون المظاهر والمنطق المذهبي الذي يقوم به الحزب في كل مكان.
وأكثر من 80% من أهل صيدا شعروا بالإهانة والطعن في الظهر حين قال حسن نصر الله عن 7 أيار: يوم مجيد. ففي صيدا قُتِل حينها أكثر من 9 أشخاص من أهل المدينة “بشكل مجيد”!
وأكثر من 70% من أهل المدينة مقتنعون بأنَّ أذناب الحزب وزبانيّته هم المسؤولون عن إعاثة الفساد والفوضى في المدينة: من توزيع حبوب الكبتاغون في البلد القديمة، حتى الخُطَب على منابر بعمائم مرتشية.
وأكثر من 90% من أهل صيدا باتوا مقتنعين حتى النُّخاع بأن هناك سياسة مُمنهَجة للسيطرة على اقتصاد المدينة ومؤسّساتها ومكامن قوّتها الاقتصاديّة: بدءًا من مصلحة مياه الجنوب، حتى آخر محلّ للإيجار على الأوتوستراد الشرقي.
####
كلّ ما تقدّم وما تعداه، لا يحتاج إلى مراكز دراسات، ولا إلى استطلاعات رأي أو فذلكة معمّقة في الجيو-سياسية لتعلم أنّه الحق والواقع على الأرض.
إنه كلام الناس الذي يُقال كلّ يوم وفي مواضع كثيرة: من الجميع، عاديّين وغافلين، متشدّدين ومتهاونين، مستفيدين ومتضرّرين، من النساء قبل الرجال، حتى من الغلمان…
هذه هي صيدا منذ سنين كثيرة، والمتعامي عن هذا الواقع طُمِس على قلبه قبل ناظريه.
####
ما شهده السوق التجاري لمدينة صيدا عصر اليوم، هو مظهر من مظاهر الهيمنة والاحتلال الناعم، الذي لم يعُد ناعمًا أو مُقنِعًا، بل بات على المكشوف. فليس هناك من يُحسَب له حساب في المدينة اليوم.
عشرات الأشخاص يُؤتى بهم من كل حدب وصوب، ليحتلّوا شوارع المدينة تحت عنوان الفن والرسم والإبداع الفكري، تحت علم فلسطين القضية “المُتاجر” بها إحياءً لذكرى اغتيال نصر الله وصفِيّ الدين، تحت عنوان: “إنّا على العهد”.
أيُّ عهد هذا؟ صيدا لم تُعطِ أيًّا منكما عهدًا ولا وعدًا.
سيُقال: إنّه شهيد الوطن والأمة جمعاء، وأنّه قدّم أغلى ما عنده فداءً لفلسطين، للقضية وللمستضعفين في كل مكان. فمن أنتم حتى تقولوا له أو لأنصاره: ممنوع عليكم أن ترسموه في شوارع عاصمة الجنوب؟
في لبنان، ليس هناك من إجماع يُفرَض على الجميع. البلد قائم على مراعاة الحسابات المذهبيّة والدينيّة وتناقضاتها بشكل دقيق وحسّاس، ولا تندلع النزاعات والحروب إلا حين يسعى طرف لتجاوز تلك الخطوط المرسومة بخيط خفيّ متوازن.
صيدا مدينة ذات غالبية سنّية صِرفة. وعلى الجميع مراعاة ذلك.
ماذا لو قرَّر أحمد الحريري إحياء ذكرى اغتيال رفيق الحريري باعتباره “شهيد لبنان والوطن”، وأرسل منسّق التيار في صيدا ورَهطًا من الفنّانين والمبدعين لافتراش الساحة أمام بلدية حارة صيدا؟ ماذا كان سيُفعَل به حينها؟ هل كان ليعود كي يُخبر بما جرى؟ أشكّ في ذلك.
ماذا لو قرّر مرعي أبو مرعي في لحظة ما أنَّ بشير الجميّل هو رئيس جمهورية لبنان، وأنّه اغتيل لأنّه أراد قيامة بلد حقيقي؟ هل سيُسمح له أن يرفع صورة، مجرّد صورة لبشير، في “الدوار” الذي هو من نطاق بلدية الهلالية، التي قُتِل من أبنائها الكثير كرفاق سلاح مع بشير، وما كان يُنادي به؟ طبعا سيُقال أنه ينفث في دخان حرب أهلية. يحق لكم ما لا يحق لغيركم، وعلى الجميع الانصياع كالعبيد.
####
لا يتذكّر مصطفى حجازي أنَّه رئيس بلدية إلا حين يطلب من عناصر شرطة البلدية منع عمّال شركة صيداوية خاصة بالقوّة من تنظيف شوارع المدينة من النفايات قبل الاستحصال على إذن. أو حين يُصدر بيانًا يمنع فيه مُبادرًا نشطا من سدّ حفرة في طريق يسلكه آلاف الصيداويّين قبل الحصول على إذن منه.
تخاله العين الساهرة على مصلحة المدينة وأهلها، ليتبيَّن عند السؤال أنّه “لم يكن يعلم” بما حصل من قبل حزب الله في شوارع السوق التجارية اليوم. لم يُقَم له أحد وزنًا كي يستأذنه أصلًا، تمامًا كما حال جمعية التجار وسائر القوى السياسية في المدينة.
لا ترى “الصيادنة” أسودًا إلا على بعضهم، وأرانب حين يكون الخطر الداهم من الخارج.
كلّ ذلك يحصل، والكلّ يتكلّم به، والمدينة تتفلّت يومًا بعد يوم من بين أيدي أهلها وناسها. وهنا يقلّ الفعل ويكثر الكلام فقط…أو بالأحرى الضجيج والنق فقط.